معنى ( الـدعـــاء ) في القرآن الكريم
تكرر ذكر كلمة الدعاء ومشتقاتها في القرآن الكريم في الكثير من الآيات ، ولكن اختلف معناها وتنوع حسب سياق الآية القرآنية والموقف التي ذكرت فيه ، ورغم هذا الاختلاف في ذكر الكلمة بأكثر من معنى إلا أنه لا يمكن فهم تلك المعاني المختلفة إلا من خلال القرآن نفسه بمصطلحات وقواعد قرآنية ربانية وضعها رب العالميين لنا نحن البشر كي نتدبر لنفهم ونعقل آيات الله جل وعلا ..
والدعاء هنا له عدة مستويات تحدث عنها القرآن الكريم مستخدما كلمة الدعاء ومشتقاتها ومنها الآتي : إذا استخدمت إحدى مشتقات الفعل دعا بين الناس وبعضهم البعض فيكون معناها النداء أو التسمية أو النسب كما سيتضح ، وإذا استخدمت من الرسول إلى الناس فيكون المعنى دعوة الناس لدين الله جل وعلا ، ولكن يختلف المعنى كلية عند استخدام الدعاء إلى الله عز وجل فيكون المعنى مغايرا تماما حيث يكون الدعاء بمعنى الطلب والرجاء من الله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء ..
أولا : عندما وضع المولى عز وجل قاعدة قرآنية للناس يعلمهم كيف ينادون الأبناء بالتبني ، ويعلمهم أيضا أن رسول الله ليس له ابن كما كان في قصة زيد بن حارثة حين تبناه النبي محمد عليه السلام فكان يدعى زيد بن محمد فوضع المولى عز وجل هذه القاعدة القرآنية ـ يقول تعالى (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) الأحزاب ، وهنا معنى ادعوهم أي انسبوهم أو نادوهم أو اجعلوهم لآبائهم الحقيقيين ..
ثانيا : عندما تحدث رب العزة جل وعلا موضحا للمسلمين الأوائل كيف ينادون الرسول عليه السلام قال جل شأنه (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)النور ـ فهنا دعاء بمعنى نداء ، وكان اللوم موجه للمسلمين لأنهم كانوا ينادون الرسول كما ينادون بعضهم البعض وهذا لا يليق برسول الله عليه السلام حيث كانوا ينادونه يا محمد ، فكان يجب عليهم أن ينادونه يا رسول الله أو يا نبي الله احتراما وتوقيرا له..
ثالثا : دعوة الناس لدين الله عز وجل من قبل الرسل ، وتوضح آيات القرآن طريق الدعوة القرآنية ، ولنا أسوة حسنة في خاتم النبيين عليهم جميعا السلام يقول تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل : يقول تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)فصلت :33 ، وهنا يتضح أن أفضل القول وأحسنه من يدعو الناس إلى الله جل وعلا وحده ، ويعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، فهل دعوة الناس إلى الله تكتمل بدون دعوتهم لكتاب الله عز وجل ..؟؟ فأين نحن من هذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الله عز وجل وإلى كتابه القرآن الكريم..
رابعا : المعنى الرابع والأهم للدعاء يخص علاقة الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى فقد وضع الله جل وعلا في القرآن الكريم قواعد وأسس لابد من إتباعها عند الدعاء إلى الله الخالق الواحد الأحد السميع العليم الذي يعلم ما نخفي وما نعلن ، وتنقسم هذه القواعد لعدة فروع ..
1ـ كيف ندعو الله جل وعلا .؟ وماهية الطريقة التي يجب أن نتحلى بها ونحن واقفون بين يدي الله العلى القدير ندعوه ونتضرع إليه ونطلب منه الرضا والرحمة والمغفرة.؟ ـ هل يجب أن نرقص ونتمايل أو نتغنى بالدعاء..؟؟ هل يجب أن نستخدم مكبرات الصوت في الدعاء..؟ ـ يقول ربنا سبحانه وتعالى (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)الأعراف ، يتضح من معنى الآية أن من لا يتبعها يعتبر من المعتدين ..
ويحدد المولى عز وجل الدعاء في الصلاة ويوضح لنا أيضا كيف نصلي ، وكيف نرتقي بالصلاة في خشوع وخضوع وسكينة ، وبدون مكبرات الصوت أيضا التي تخالف ما قاله نص القرآن الكريم والآيات واضحة الدلالة ولا تحتاج لتفسير يقول تعالى )قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا)الإسراء ـ فهذه الآيات توضح كيف هجر المسلمون القرآن وتناسوا تدبر معانيه وخالفوا آيات الله عز وجل في الدعاء والصلاة وتناسوا أوامر الله في الدعاء بأسمائه الحسنى ..
2 ـ هل في القرآن نماذج للدعاء يمكن أن يستخدمها الإنسان المسلم حين يريد أن يناجي ربه ويدعوه ..؟؟ أم أنه الأفضل إتباع أقوال أهل السنة في أدعيتهم وترديد أبيات من الشعر كما يفعل معظم الخطباء والدعاة عند الدعاء .؟ مثل ( اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك) لدرجة جعلت الكثير من المسلمين يستبدلون رنة التليفون المحمول بهذا الدعاء ) الذي يحمل أكذوبة كبيرة جدا وهي (عذاب القبر)..
الشيء العجيب عندما فكر المسلمون في استخدام دعاء من القرآن استخدموه في السيارات والدراجات النارية الصينية ، وذلك باستخدام شريط ناطق مسجل عليه آيتين من سورة الزخرف يعمل عند وضع المفتاح في مكان الكونتاك الخاص بتشغيل السيارة أو الدراجة النارية والآيات هي قوله تعالى (.......... سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ـ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) الزخرف 13، 14 ، ومن شدة انتشار وتمكن هذه الثقافة بين المسلمين أصبحت هذه الأدعية تصنع في الصين خصيصا للعرب من المسلمين..
إن القرآن الكريم ما فرط في شيء ، ووضح كل شيء لكن لمن يقرأ بهدف الفهم والتدبر والبحث عن الحق ، وهناك نماذج قرآنية للدعاء يمكن أن يستخدمها الإنسان المسلم عند مناجاة خالقه جل وعلا بدلا من الأدعية المصطنعة التي لا أصل ولا فصل لها وكلها من تأليف البشر والشعراء ، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر دعاء أبونا إبراهيم وابنه إسماعيل بتقبل ما يقومون به من أعمال في قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة : 127،دعاء الله في الحج بعد قضاء المناسك حدده المولى جل وعلا ، ومن المؤكد أن هناك كتيبات توزع على الحجيج لتعلمهم ما يقولونه في الدعاء ، وبالتأكيد فيها ما يخالف القرآن الكريم ـ يقول ربنا تبارك وتعالى عن هذا الدعاء ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ــ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ـ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)البقرة 200، 201..
دعاء الله جل وعلا عند المحن أو الحروب يقول جل وعلا(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ــ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)البقرة :250
وفي أخر آيات سورة البقرة بعد الحديث في موضوع كتابة الدَين ضمانا للحقوق بين الناس يختم ربنا جل وعلا تلك السورة بقوله تعالى )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)البقرة:286 هل يوجد أفضل من هذا دعاء ..؟
وهذا دعاء لابد أن يذكره كل إنسان باستمرار حفاظا على نفسه من الرجوع عن الهدى والحق المبين يقول تعالى(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) آل عمران :8
وبالطبع لا يوجد أفضل من الأنبياء والرسل للإقتداء بهم في كل شيء ـ من دعاء الأنبياء في القرآن (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) آل عمران 38
دعاء أبونا إبراهيم(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) إبراهيم ، وهناك دعاء عام استخدمه معظم الأنبياء في القرآن ولكن يتجاهله جميع الناس يقول تعالى على لسان النبي يوسف (...... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف : 101، (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الشعراء: 83 ، ومن دعاء أبونا إبراهيم أيضا قوله تعالى (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)الشعراء
ومن دعاء نبي الله سليمان قوله تعالى(..... وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) النمل : 19
ومن مميزات الدعاء إلى الله عز وجل من خلال القرآن أن المسلم يجعل القرآن إمامه ودستوره وكتابه يتدبره عند القراءة والدعاء ملتزما بقواعد المولى عز وجل ، بذلك يكون المسلم قد اتخذ مع الرسول سبيلا ولم يتخذ القرآن مهجورا ..
فإذا كان القرآن أحسن القصص كما يقول المولى تبارك وتعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يوسف : 3 ، يقول جل شأنه (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )الزمر : ـ23 فهل هناك حجة أو منطق يجعلنا نتبع ما قاله السلف أو الفقهاء أو الشعراء عند الدعاء ..
فإذا كان بين أيدينا ما هو أفضل وأحسن من أقوال جميع البشر فلماذا ندعو الله بأقوال من صنع البشر ، وبذلك قد نساهم في هجر كتاب الله عز وجل ، ولكن لو قرأنا القرآن في كل أمور حياتنا من صلاة أو دعاء بتدبر وتعقل لهدانا الله عز وجل ، وكان الرسول عليه السلام يذكر بالقرآن كما أمره المولى عز وجل (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ق : 45 ، ورغم هذه الآيات الواضحة الدلالة من كتاب الله عز وجل نجد الخطباء والدعاة يـُذكرون الناس بأقوال مثل ـ رُويَ في الأثرـ ، أو قصص عن الثعبان الأقرع وعذاب القبر ، أو أدعية من الشعر السلفي متجاهلين القرآن الكريم دستور المسلمين وكتاب رب العالمين ..